القصر في العربية

القصر: طريقة من طرائق التوكيد، وأسلوب من أساليب التعبير، يَهدف به المتكلم إلى تثبيت غرضه في ذهن السامع وإزلة ما في نفسه من شك.
1- تعريفه:
أ-لغة:يرد القصر في معاجم اللغة وقواميسها بمعنى الحبس.
قال تعالى:"حور مقصورات في الخيام " .
وقال تعالى:" وعندهم قاصرات الطرف أتراب" .
قال الفراء:" قد قصرن أنفسهن على أزواجهن فلم يطمحن إلى غيرهم " .
اصطلاحا: عرفه علماء المعاني بأنه:
" تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص، أو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص أي حبسه عليه واقتصاره ".
فإذا قلت: ما المتنبي إلا شاعر: تكون قد قصرت المتنبي على الشعر؛ أي: خصصته بمهمة الشعر أو بصفة الشاعرية دون سواها، ونفيت عنه صفة الكتابة ردا على من زعم أنه شاعر وكاتب.
وقد استفدت ذلك المعنى بطريق مخصوص؛ وهو النفي والاستثناء أي: (ما) و(إلا).
2- الفرق بين القصر والحصر:
يقول السيوطي في الإتقان:" أما الحصر ويقال له القصر .
غير أن الحصر مصطلح معروف في دراسة علم النحو، والقصر مصطلح معروف في دراسة علم البلاغة.
3- طرفا القصر:
تحتوي جملة القصر على طرفين لا غنى عنهما لأسلوب القصر وهما:المقصور ثم المقصورعليه.
فقولك: ما سافر إلا عليّ.
معناه تخصيص السفر بعلي ونفيه عن غيره ممن يظن فيه ذلك.
وعليه" فالسفر" مقصور؛ و"علي" مقصور عليه.
وإذا قلت: إنما الجاحظ كاتب؛ فـ"الجاحظ" مقصور.و"الكتابة" مقصور عليه.
ولتعلم أنه يغلب مجيء المقصور ثم المقصور عليه في معظم طرق القصر التي ستعرفها لاحقا.
4- طرق القصر الأساسية ودرجاتها:
طرق القصر كثيرة، ولكن يهمنا ما اشتهر منها في الاستعمال؛ وهي أربعة:
وفيما يلي عرض لهذه الطرق حسب درجاتها من حيث القوة في البلاغة مع التمثيل لها بما يوضحها:
أ- القصر بالنفي مع الاستثناء:
وهو المعروف في دراسة علم النحو: بالحصر أو الاستثناء المفرغ.
تقول: ما جاء إلا علي.
وتكون بذلك قد قصرت المجيء على (علي) أي: أن المجيء مقصور عليه.
ومنه قول ابن المعتز:
وما العيشُ إلا مدةٌُ سوف تنقضي وما المال إلا هالك وابن هالك.
فالمقصور: هو العيش والمال.
والمقصور عليه: هو المدة والهلاك.
وهو من قصر الموصوف على الصفة.
وقول كعب بن زهير:
لا يقع الطعن إلا في نحورِهم ومالهم عن حياض الموت تهليلُ.
فقد قصر: وقوع الطعن على الكون في نحورهم .
فما قبلإلا) مقصور، وما بعدها مقصور عليه، ولذلك؛ فالمقصور عليه يكون: ما بعد إلا.
وقد عقب الدكتور: مهدي المخزومي – وهو من الباحثين المحدثين- على هذا الأسلوب بقوله:
" وليس القصر بالنفي و(إلا) من الاستثناء في شيء؛ لأن الاستثناء: إخراج شيء من حكم دخل فيه غيره؛ نحو: اجتمع الطلبة في الحفل إلا خالدا. فقد نصت: (إلا) هنا على خروج (خالد) مما دخل فيه الطلبة من حكم وهو: الاجتماع، وليس في القصر إخراج ولكنه إثبات الحكم للشيء بتوكيد" .
ب-القصر بـ (إنما): التي تتألف منإن) وهي حرف توكيد وما (ما) التي هي حرف زائد يفيد التوكيد أيضا.
ودخول (ما) على (إن) يلغي اختصاصها بالدخول على الجملة الاسمية بحيث يشمل الفعلية، ويبطل عملها في نصب الأول ورفع الثاني بالنسبة للجملة الاسمية، لكن يبقى لها الاختصاص في أمرين هما: (التوكيد) و(القصر).
تقول: إنما الشجاع علي.
فالشجاعة: مقصورة؛ وعلي: مقصور عليه. وهو من الخبر الإنكاري لأنه مؤكد بمؤكدين.
ومنه قوله تعالى:" إنما يخشى الله من عباده العلماء " .
وقوله تعالى: "إنما يتذكر أولوا الألباب " .
وقول المعري:
إنما الدنيا كبيت نسجته العنكبوت
والمقصور عليه مع (إنما) هو المذكور بعدها ويكون مؤخرا في الجملة وجوبا.
ج-القصر بأدوات العطف: (لا،بل،لكن) أو النفي المستدرك:
وسيتضح من خلال مناقشة الأمثلة التالية:
أ- علي شجاع لا خالد.
ب- ما خالد شجاع بل علي.
ج- ما خالد شجاع لكن علي.
والمقصور عليه في المثال الأول هو (علي)،أما المقصور فهو الصفة اللاحقة: (شجاع).
والمضمون العام هو توكيد الصفة: (شجاع) وقصرها على شخصية: (علي).
والمقصور عليه في هذا المثال هو المقابل لما بعدلا)؛ أي: (علي).
و في المثال الثاني قصرت الشجاعة على شخصية (علي).
وعليه فالمقصور عليه هو (علي)، وموقعه ما بعد : (بل).
أما المقصور عليه في المثال الثالث هو(علي) موقعه ما بعد (لكن).
د- القصر بتقديم ما حقه التأخير:
وشاهده قوله تعالى:"إياك نعبد وإياك نستعين " .
وهو من قبيل قصر المفعول على فعل الفاعل.
فالمقصور عليه هو الضمير(إياك)، والمقصور العبادة.
والمعنى أن العبادة مقصورة على الله وحده؛ أي نخصك يا الله بالعبادة، ونخصك بطلب الإعانة.
وفي أسلوب القصر الوارد بالتقديم والتأخير نقدم المقصور عليه على المقصور.
والملاحظ في أساليب القصر السابقة أن الثلاثة الأولى تدرك بالوضع اللغوي؛ لأن الواضع وضعها لتفيد ذلك. أم الرابع فبالفحوى؛ أي بمعونة القرائن؛ لأن صاحب الذوق السليم إذا تأمل في كلام فيه تقديم فهم منه القصر والاختصاص. ويراد بالتقديم تقديم ما كان حقه أن يؤخر كتقديم الخبر على المبتدأ. وتقديم بعض معمولات الفعل عليه.
5- طرق القصر الملحقة:
للقصر طرق أخرى قليلة الاستعمال مثل:
- لفظ (وحدَه) كقولك: الجاحظ وحده شيخ الكتاب.
- لفظ (فقط) أي: التفقيط لغاية التخصيص؛ مثل: أنت فقط من أحبه.
- ضمير الفصل مثل: علي هو الناجح.
6- أقسام القصر باعتبار الواقع والحقيقة:
ينقسم القصر باعتبار الحقيقة والواقع إلى قسمين:
أ- قصر حقيقي.
ب- قصر إضافي.
القصر الحقيقي:هو ما كان التخصيص فيه بحسب الحقيقة والواقع بحيث لا يتجاوز المقصور المقصور عليه إلى غيره أصلا نحو: لا يعلمُ الغيبَ إلا اللهُ.
فعلم الغيب مقصور على لفظ الجلالة وحده.
وهذا النوع قسمان:
أ- الحقيقي حقيقة:
أي الصادر عن الحقيقة الثابتة المؤكدة، وهو ما لا يتجاوز فيه المقصور المقصور عليه إلى غيره حقيقة كالتمثيل السابق.
وكقولك: لا كامل إلا الله؛ إذ لا كامل في الحقيقة والواقع غير الله سبحانه وتعالى.
ومنه قوله تعالى:" إياك نعبد وإياك نستعين" .
وقوله تعالى:"وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب " .
ب- الحقيقي ادعاء: وهو ما لا يتجاوز فيه المقصور المقصور عليه ادعاء، فهو مبني على المبالغة بفرض أن ما عدا المقصور عليه في حكم المعدوم فلا يعتد به نحو قولك:
لا شاعر إلا شوقي؛ على ادعاء أن جميع الشعراء عدا شوقي في حكم العدم؛ لأنهم لا يساوونه في منزلته الشعرية.
وعليه قوله تعالى:" فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " .
وقوله تعالى:" إن يدعون من دونه إلا إناثا " .
" مع أنهم دعوا هبل ويغوث ويعوق لكنهم لما أكثروا دعوة اللات والعزى ومناة جُِعلوا كالذي
لا يدعوا إلا إناثا" .
ب- القصر الإضافي:
وهو ما كان التخصيص فيه بحسب الإضافة-أي النسبة- إلى شيء معين، بألا يتجاوز المقصور عليه إلى ذلك الشيء، وإن أمكن أن يتجاوزه إلى شيء آخر نحو قولك:
ما خالد إلا شجاع؛ بمعنى أنه لا يتجاوز الشجاعة إلى الجبن أو التهور، وليس بمعنى أنه
لا يتجاوزها إلى صفة أخرى.
وقد لا يتجاوزه إلى شيء آخر، كما إذا اعتبر القصر في مثل قول القائل:" لا إله إلا الله" بالنسبة إلى آلهة بعض البلدان، فهو إضافي مع عدم التجاوز لشيء آخر أصلا .
ومنه قوله تعالى:
" وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " .
فالمقصود قصره على الرسالة بأن لا يتعداها إلى التباعد عن الموت الذي استعظموه، الذي هو من شأن الإله. وهذا لا ينافي أنه متصف بالصحة واليقظة.
وليس القصر الحقيقي موضع نطر البلاغي، وإنما القصر الإضافي هو محل اعتبار البلاغي ونظره والافتنان فيه .
7- أقسام القصر باعتبار طرفيه:ينقسم القصر باعتبار طرفيه إلى:
أ- قصر موصوف على صفة.
ب- قصر صفة على موصوف.
أ- قصر الموصوف على الصفة:
والمراد بالصفة والموصوف هنا: الحكم والمحكوم عليه، لا الصفة المعروفة في النحو.
ومعنى قصر الموصوف على الصفة؛ أن لا يتجاوز الموصوف تلك الصفة إلى صفة أخرى أصلا في القصر الحقيقي، يجوز أن تكون تلك الصفة لموصوف آخر. نحو: ما زيد إلا كاتب؛
أي لا صفة له غيرها، وهو عزيز لا يكاد يوجد لتعذر الإحاطة بصفات الشيء حتى يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداها بالكلية، وعلى عدم تعذرها يبعد أن تكون للذات صفة واحدة ليس لها غيرها، ولذا لم يقع في التنزيل .
أو بألا يتجاوز الموصوف تلك الصفة إلى صفة أخرى مخصوصة، وإن أمكن أن يتجاوزها
إلى صفات أخرى غير تلك الصفة الأخرى المخصوصة في القصر الإضافي نحو:
"وما محمد إلا رسول" . والمقصود قصره على الرسالة بأن لا يتعدلها إلى التباعد عن الموت
الذي استعظموه وهذا لا ينافي أنه متصف بالصحة واليقظة.
ب- قصر الصفة على الموصوف:
وهو ألا تتجاوز تلك الصفة ذلك الموصوف إلى موصوف آخر أصلا في القصر الحقيقي، لكن يجوز أن يكون لذلك الموصوف صفات أخرى نحو: لا رازق إلا الله.
وبأن لا تتجاوز الصفة ذلك الموصوف إلى موصوف آخر مخصوص، وإن أمكن أن تتجاوزه إلى موصوف آخر غير ذلك الموصوف في القصر الإضافي نحو:لا محترم إلا الصادق؛ والمقصود قصر الاحترام على الصادق دون الكاذب، ولا يمنع هذا من احترام الأمين والمخلص لوطنه، ونحو ذلك.
8- أقسام القصر الإضافي باعتبار حال المخاطب:
ينقسم القصر الإضافي باعتبار حال المخاطب إلى ثلاثة أقسام:
أ- قصر إفراد.
ب- قصر قلب.
ج- قصر تعيين.
أ- قصر الإفراد:
وذلك إذا اعتقد المخاطب الشركة.
فإذا قلت: ما علي إلا شاعر. وكان المخاطب يعتقد اتصاف علي بالشعر والخطابة كان القصر قصر إفراد.
ومنه قوله تعالى:" إنما هو إله واحد" .
فهو قصر إفراد لأنه رد على من اعتقد اشتراك الله والأصنام في الألوهية.
ب- قصر القلب:
وذلك إذا اعتقد المخاطب عكس الحكم الذي تثبته.
فإذا قلت: ما علي إلا شاعر، وكان المخاطب يعتقد اتصاف علي بالخطابة لا الشعر قلبت وعكست عليه اعتقاده وكان القصر قصر قلب.
ومنه قوله تعالى:" ربي الذي يحي ويميت " .
خوطب به نمرود الذي اعتقد أنه هو المحيي المميت دون الله.
وقوله تعالى:" وأرسلنك للناس رسولا " .
خوطب به من يعتقد من اليهود اختصاص بعثته – صلى الله عليه وسلم- بالعرب.
وقوله تعالى:"ألا إنهم هم السفهاء " هو رد على من اعتقد من المنافقين أن المؤمنين سفهاء دونهم.
قصر التعيين: وذلك إذا كان المخاطب مترددا في الحكم.
فإذا قلت: ما علي إلا شاعر. والمخاطب تساوى عنده الأمران، ولا يدري أي الصفتين هي صفة علي. كان القصر قصر تعيين.
ومنه قوله تعالى:" وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون " .
أي لستم في دعواكم للرسالة عندنا بين الصدق والكذب كما يكون ظاهر حال المدعي إذا ادعى بل أنتم عندنا كاذبون فيها.
9-مواقع القصر:
يقع القصر بين:
- المبتدأ والخبر نحو: خالد شاعر لا فقيـه.
- الخبر والمبتدأ نحو: ما شاعر إلا المتنبي.
- الفعل والفاعل نحو: ما ينجح إلا المجـد.
- المفعول والفاعل نحو: ما أكرم عليا إلا خالد.
- الـفـاعـل والمفعول: نحو: ما أكرم خالـد إلا علـيا.
- الـمـفـعـولـيـن: نحو: ما أعطيت عليا إلا دينارا.
- الحال وصـاحـبـها: نحو: ما جـاء راكـبا إلا علي.
- صاحب الحال والحال: نحو: ما جـاء علي إلا راكبـا.
10- بلاغة القصر:
القصر أسلوب عربي فصيح ووسيلة من وسائل ملاءمة الكلام لمقتضى الحال، وسر بلاغته حادثة من العناصر التالية:
- إنه ضرب من ضروب الإيجاز.
- إنه يحدد المعاني تحديدا كامـلا.
- إنه أحد المؤكدات في علم المعاني التي تُدعم الخبر وتنقله من درجة الابتدائي إلى الطلبي ثم الإنكاري دعما لوجهة نظر المتكلم أو المنشيء تجاه السامع أو المتلقي.
- إنه من طرق التعريض البلاغية:
فقولك لمن أخفق في الامتحان: إنما يفوز المجتهد؛ هو تعريض موجع.
ومن استقراء البلاغيين لـ (إنما) وجدوها أحسن ما تكون موقعا إذا كان الغرض بها التعريض؛ كما في قوله تعالى:" إنما يتذكر أولوا الألباب " . فهو تعريض بذم الكفار وأنهم من فرط العناد وغلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل. ( )