الخطبة الأولى: الحمد لله؛ يرفع ويَخفض، ويعز ويذل، ويغني ويفقر، ويحيي ويميت، ليمحص أهل الحق، ويُملي للمبطلين، فيَتبيّن الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فتح الله به قلوبا غلفا، وآذانا صما، وأعينا عميا، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه، الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى:" ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب" .
أيها المؤمنون الأعزاء؛ لقد نشأ بلال الحبشيُّ -رضي الله عنه-، عبدا ذليلا في بيت سيده أميةَ بنِ خلفٍ، لا يفكر أن يعصيَ له أمرا، فما باله يردد في ساحة العذاب بإصرار
أَحد..أَحد)، يتحدى جلاديه، ولا يأبه للسياطِ تُمزق جلده، والرمضاءِ تُلهب جسده، هل بُدّل الرجلُ غيرَ الرجل، أم ماذا تَحكمون؟! إنه الإيمَانُ أشرِبَه قلبُه، فأنشأه خلقا آخر، أقدره على التحمل العجيب، وأمده بقوة قهرت الرعونة والعنف، فلم يعد ذلك العبدَ الْجبان، إنّما أصبح الْمؤمنَ الْمعتزَّ بالله والإسلام:" ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون" .
أيها المسلمون الأكارم؛ هذا واحد في مُجتمع صنعه الله على عينه، بعد أن تَجرد من العقل، وسار في الأرض بغير هدى، وقالوا:" إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" ، لقد حبب الله إليهم الْإيمان وزينه في قلوبِهم، ثم أقدرهم على استخدام مواهبهم وقواهم، بعد أن كانت لهم:" قلوب لا يفقهون بها، وأعين لا يبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون" .
إن الْإسلام يكره لِأهله أن يكونوا مائعين، فاقدين شخصيتَهم، يريد لَهم أن يكونوا مستقلين بذواتهم، لَا يقنعون إلا بِما تفهمه عقولُهم، ولا يرون إلا بأعينهم،
ولا يسمعون إلا بآذانهم، ولا يسيرون إلّا بإرادتهم، ولا يَخضعون لبشر ضعاف،
مهما كان شأنُهم.
إن الْإسلام يريد لأنصاره أن تتبلور شخصيتهم، فتكون ذاتَ سلوك متميز، فمثلا: تَكرس لدى البشر، أن الرّحِم ذاتُ رباط لَا تنفصم عراه، بَيْدَ أن الإيمان ينشئ شُجنة بين المسلمين، أعظمُ من الدم، تستتبع أكبر قدر من التراحم بين المؤمنين، مهما تباعدت أنسابُهم، ونأت ديارهم:" إنما الْمؤمنون إخوة" في مقابل شدةٍ على الكافرين وإن كانوا أولي قُربَى: " لا تَجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تَجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون" .
إن ديننا يكره التقليد الْأعمى وينفر منه، لأنه يضعف النفوس، فتستمرئ الباطل، لقد كان أهل الجاهلية يتعاطون الْموبقاتِ؛ شُربَ خمر، وانتهاكَ أعراض، ووأدَ بناتٍ، وقتلَ أبناءٍ خشيةَ إملاق، وعبادةَ أصنام، فلما نُهوا عن عتوهم، ما كان حجتُهم إلا أن قالوا:" وجدنا عليها آباءنا" ، إن التقليد جعل ألصق الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، عمَّه أبا طالبٍ يموت على غير الإسلام، فلا ضير أن تُشن الغارة عليه، وأن تكون مُخالفة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين من مقاصد الشرع، جاءت بذلك نصوص الوحيين تترى، قال عز وجل:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" ومضاهاتُهم من أكبر أسباب موالاتِهم، وقال سبحانه:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ" ، والتشبه بِهم من أعظم مظاهر طاعتهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" من تشبه بقوم فهو منهم" ، وأخرج المتشبهين من دائرة المسلمين إمعانا في التحذير فقال:" ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود
ولا بالنصارى" ، وعلل بعض الأحكام بِمخالفة اليهود والنصارى، فقال: "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلُّون في نعالهم وخفافهم" وقال:" إن اليهود والنصارى
لا يصبِغون فخالفوهم" وجعل عليه السلام مخالفة الكفار سبباً لعلو الإسلام فقال:
" لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون" ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن التقليد واقع في أمته زيادة في التحذير فقال:
" لتتبعن سَنن من كان قبلكم؛ شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضَبّ تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟" .
أيها المؤمنون: تختلف أحوال الناس في هذه الحياة، فمنهم منتصر ومنهم منهزم، وقد يبذل المرء غايتَة ليبلغ بغيته، غير أن الأقدار قد تحول بينه وبين ذلك، لِحكمة يعلمها الله، وقد يواتي الحظُّ شخصا ليس أهلًا للسبق في نظرنا، لحكمة أخرى قد لا نحيط بها علما؛ ومن العجيب أن الشخص قد يعلو، وهو ليس جديرا بذلك، وقد ينخفض آخر وهو أهل للصدارة! وما أكثر الذين غَلبوا عبر التاريخ، ولكن الهزيمةَ أشرفُ من انتصارهم، وما أكثر الذين انْهزموا ولكنهم كانوا في هزيمتهم شرفاء، لم يتنكروا للحق، ولم يعتدوا على الحرمات، ولم يلوثوا تاريخهم بالمنكرات، وهنا يكون المقهور أولى بالتكريم من الغالب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه
الخطبة الثانية: الحمد لله حمدا كثيرا لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، فتح الله به قلوبا غلفا، وآذانا صما وأعينا عميا، وبعد: أيها المؤمنون إن متابعة الكفار في أعياد الميلاد، والاحتفالَ بسَنتهم الجديدة، فضلا عن كونه من التشبه الذي نهينا عنه، فهو بدعة، لأن الأعياد من الشرائع التي يجب فيها الاتباع، وقد أغنانا الله بعيدي الإسلام، ومما ورد في النهي عن شهود أعياد الكافرين قول الله سبحانه
في وصف عباده المؤمنين:" والذين لا يشهدون الزور" وقد فُسر الزور في الآية بأنه أعياد الكفار، وقد نهى النبي عليه صلاة الله وسلامه عن الاحتفال بها؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال:" ما هذان اليومان؟" قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال:" إن الله أبدلكم بهما خيراً منهما: يومَ الأضحى ويومَ الفطر" ونهى عمر بن الخطاب
رضي الله عنه عن ذلك فقال: " لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السُّخطَة تنزل عليهم" ، وذكر ابن القيم -رحمه الله- أن تهنئتهم بأعيادهم غيرُ جائزة فقال:" وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام باتفاق مثل
أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أو تَهَنَّأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلِم قائله من الكفر، فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج المحرم ونحوه، وكثير ممن لا قَدْر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قُبح ما فعل، فمن هنَّأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه " .
وفي الختام لا يفوتنا أن ننبه أن التقليد المذموم ليس منه ما يتنافس البشر
في إجادته، في الحرب والسلم، من وسائل عسكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية وصناعية..وغيرها، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بإشارة سلمان الفارسي في حفر الخندق في غزوة الأحزاب كما كان يفعل الفرس، وأنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدواوين في عهده، كما كان يفعل الروم، وقد أخذ علماء المسلمين عن الرومان والفرس واليونان، وطوروا وابتكروا، ثم أخذ عنهم الأوربيون الكثير وأنشؤوا مدنيتهم، وهذا من باب المصالح المرسلة التي لم يعتبرها الشارع ولم يلغها، ونحن مأمورون أن نأخذ بأحسنها.
فلنحرص على الكرامة لأنفسنا، ولا نكن إمعات تُتابع الريح أينما سارت، ولنكن موازين للحق في هذه الحياة، ولنبذل الجهد إرضاءً لله وإصلاحا للأحوال، والنتائجُ بعد ذلك بيده سبحانه، اللهم اجعل يومنا خيرا من غدنا، وغدنا خيرا من يومنا، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها...
المراجع:
- خطبة: قوة الشخصية، عبد الصبور شاهين، خطب الجمعة والعيدين، لجنة من كبار علماء الأزهر، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط4، ص (123- 130).
- خطبة: بين الغالب والمغلوب: الموسوعة الشرباصية في الخطب المنبرية، أحمد الشرباصي، دار الجيل بيروت، (5/198- 202).
- خطبة: التقليد والتبعية، سعود بن إبراهيم الشريم، موقع المنبر: www.alminbar.net
- خطبة: التقليد وأثره السيئ، حمد بن إبراهيم الحريقي، موقع المنبر.
- خطبة: التشبه: صالح بن عبد الله الهذلول، موقع المنبر.
- خطبة: أزمة التقليد" خالد بن عبد الله المصلح" موقع الشيخ.
- التقليد مرض نفسي اجتماعي، قضايا نفسية اجتماعية، الدكتور حسان المالح، دمشق، سورية، مجلة البيان العدد الخامس رجب 1427 أوت 2006 نقلا عن: director@hayatnafs.com
الهوامش:
- الطلاق: 2- 3.
- المنافقون: 8.
- الزخرف: 23.
- الأعراف: 179.
- الحجرات: 10.
- المجادلة: 22.
- الأعراف:28.
- المائدة: 51.
- الأحزاب:1.
- أخرجه : أحمد ( 5093 ، 5094) ، وأبو داود ( 4031) عن ابن عمر.
- أخرجه : الترمذي ( 2695) وحسنه الألباني .
- أخرجه : أبو داود ( 652) وهو صحيح .
- أخرجه : البخاري ( 3462 ) ، ومسلم ( 2103) .
- أخرجه : أبو داود (2353) بإسناد حسن.
- البخاري : (7320)
- الفرقان: 72.
- أخرجه : أحمد ( 13210)، وأبو داود ( 1134)، والنسائي ( 1556) عن أنس.
- رواه البيهقي بإسناد جيد.
- أحكام أهل الذمة ( 1/205 ـ 206).