من العادات المستحكمة عندنا أهل المغرب الإسلامي قراءة القرآن على المحتضر وعند الدفن وفي المآتم، حتى امتهن ذلك كثير من حفظة القرآن وأصبحوا يتكسبون منها بل أثروا منها، هل سألنا ما حكم ذلك؟ هل كان هذا العمل زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عثرت على مقالات تعالج هذا الموضوع للشيخ العلامة المصلح المجاهد الكبير أحد مؤسسي و رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عبد الحميد بن باديس الجزائري رحمه الله، وأثابه عما قدم للإسلام وذلك في جريدة البصائر التي أوقفتها سلطات الاحتلال الفرنسي لدورها في توعية الشعب الجزائر، هذه المقالات نشرت في الثلاثينيات من القرن الميلادي المنصرم، وقد تجشمت كتابتها فأرجو أن يستفاد منها، وأن تنشر عبر مختلف المنتديات، وأن تصحح الأخطاء التي وقعت في الكتابة وقد حاولت جهدي أن أتلافاها، ومرجع هذه المقالات هو كتاب: ابن باديس حياته وآثاره ج3 للأستاذ عمار الطالبي والذي نشر عام 1388هـ الموافق 1968م، دون إطالة إليكم أولى هذه المقالات بعنوان:
شيخ الإسلام بتونس يقاوم السنة، ويؤيد البدعة، ويغري السلطة بالمسلمين!!
-1-
نطق (شيخ الإسلام ) – والحمد لله بعد سكوت مألوف منذ السنين الطوال، وإن كان أتى بما لا يرضي الله ورسوله، والحق ودليله، فقد نطق على كل حال. ولقد كان نطقه متوقعا لدينا. فقد كان المقال المنشور بالعدد الحادي عشر من (البصائر) الموجه إلى علماء الزيتونة عامة وشيخي الإسلام به خاصة، قنبلة وقعت وسط أولئك النائمين والمتناومين أزعجتهم في مراقدهم ونبهت من كان غافلا عنهم من الناس، حتى لقد تسابق الناس إلى ذلك العدد يطلبونه بأضعاف ثمنه كما أخبرني تلاميذي الذين رجعوا من تونس لتعطيل القراءة بجامع الزيتونة بسبب البلاغ المشهور وما لحق تلامذة الجامع من سجن وتغريب.
إننا نشكر لشيخ الإسلام المالكي هبوطه إلى الميدان، وإن كان هبط إليه هبوط المغيظ المحنق الذي أنساه الغيظ والحنق ما يناسب مقامه من التحري والاتزان، فتعثر في أذيال العجب والتعظم عثرات أهوت به مرات في مهاوي الخطأ والتناقض حتى تردى في هوة إذاية أنصار السنة باللسان، ومحاولة إذايتهم بيد العدوان.
شيخ الإسلام يقاوم السنة- ويؤيد البدعة-! ويغري (السلطة) بالمسلمين!! هذا – والله- عظيم وإن كان القارئ يود أن يعرف من هو هذا الذي تحلى بهذا اللقب وأتى بهذه الشنع التي لا يأتي بها من ينتمي انتماء صادقا للإسلام من عامة المسلمين فكيف بشيخ الإسلام؟ نعم كل أحد يتعجب نهاية العجب أن يصدر هذا من شيخ الإسلام. ويزيد كاتب هذه السطور عجبا آخر فوق عجب كل أحد أن شيخه وأستاذه وصديقه الشيخ الطاهر بن عاشور هو الذي يأتي بهذا الباطل ويرتكب هذا الذنب.
إنني امرؤ جبلت على حب شيوخي وأساتذتي وعلى احترامهم إلى حد بعيد، وخصوصا بعضهم، وأستاذي هذا من ذلك الخصوص، ولكن ماذا أصنع إذا ابتليت بهم في ميدان الدفاع عن الحق ونصرته؟ لا يسعني وأنا مسلم أدين بقوله تعالى:" قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" ، إلا مقاومتهم ورد عاديتهم عن الحق وأهله.
دعوني – يا قرائي الأفاضل- أحدثكم عن شيء من حقيقة هذا الرجل كما عرفته وعن علاقتي به وأثره في حياتي فإن هذا وفاء لحق تلك الصحبة والأستاذية يهون علي ما أجابهه به عن بعد.
عرفت هذا الأستاذ في جامع الزيتونة، وهو ثاني الرجلين اللذين يشار إليهما بالرسوخ في العلم والتحقيق في النظر والسمو والاتساع في التفكير أولهما العلامة الأستاذ شيخنا (محمد النخلي) القيرواني رحمه الله، وثانيهما العلامة الأستاذ شيخنا (الطاهر بن عاشور) وكانا كما يشار إليهما بالصفات التي ذكرنا يشار إليهم بالضلال والبدعة وما هو أكثر من ذلك لأنهما كانا يحبذان آراء الأستاذ(محمد عبده) في الإصلاح ويناضلان عنها ويبثانها فيمن يقرأ عليهما وكان هذا مما استطاع به الوسط الزيتوني أن يصرفني عنهم، وما تخلصت من تلك البيئة الجامدة واتصلت بهما حتى حصلت على شهادة العالمية ووجدت لنفسي حرية الاختيار. فاتصلت بهما عامين كاملين كان لهما في حياتي العلمية أعظم الأثر على أن الأستاذ بن عاشور اتصلت به قبل نيل الشهادة بسنة فكان ذلك تمهيدا لاتصالي الوثيق بالأستاذ النخلي. وإن أنس فلا أنسى دروسا قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور، وكانت أول ما قرأت عليه فقد حببتني في الأدب والتفقه في كلام العرب وبثت في روحا جديدا في فهم المنظوم والمنثور وأحيت مني الشعور بعز العروبة والاعتزاز بها كما أعتز بالإسلام.
مات الأستاذ النخلي على ما عاش عليه، وبقي الأستاذ ابن عاشور حتى دخل سلك القضاء فخبت تلك الشعلة وتبدلت تلك الروح فحدثني من حضر دروسه في التفسير أنه- وهو من أعرف إنكاره على الطرق اللفظية وأساليبها- وقد أصبح لا يخرج عن المألوف في الجامع من المناقشات اللفظية على طريقة عبد الحكيم في مماحكاته وطرائق أمثاله وبقي حتى تقلد خطة شيخ الإسلام، ووقف هو وزميله الحنفي في مسألة التجنيس المعروفة من بضع سنوات، ذلك الموقف حتى أصبح اسمه لا يذكر عند الأمة التونسية إلا بما يذكر به مثله. وهاهو اليوم يتقدم بمقال نشره بجريدة (الزهرة) في عدد يوم الاثنين الرابع عشر من هذا الشهر المحرم يقاوم فيه السنة ويؤيد فيه البدعة ويغري السلطة بالمسلمين.
فهل ابن عاشور هذا الملقب بشيخ الإسلام، هو ابن عاشور أستاذي الذي أعرف؟
لا! ذلك رجل آخر مضى قضى عليه القضاء وأقبرته المشيخة، وقد أديت له حقه بما ذكرته به. وهذا مخلوق آخر ليس موقفه اليوم أول مواقفه ولا أحسبه يكون آخرها، وإنني لا أود أن يكون آخرها . فإن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى معرفة ما ينطوي عليه مثله ممن ينتحلون ألقابا مخترعة في الإسلام ولا يفضحهم مثل مقال هذا الرجل.
وموعدنا بالرد عليه لعدد الآتي إن شاء الله، والله المستعان
نشرت هذه المقالة في البصائر: السنة الأولى، العدد16، الجزائر، الجمعة 2 صفر 1355 هـ - 24 أفريل 1936م.