وعدتكم أن أنشر مقالات الشيخ عبد الحميد حول موضوع قراءة القرآن على المحتضر وعلى القبر وفي المآتم وها أنا ذا عند وعدي فإليكم المقالة الثانية التي نشرت في مجلة البصائر: السنة1، العدد 17، الصفحة1، العمود 2و 3 من صفحة2، الجزائر في يوم الجمعة 9 صفر 1355 هجرية، الموافق ليوم 1 ماي 1936م.
-2-
سئل فضيلته عن حكم قراءة القرآن عند تشييع الجنازة وحول الميت، وحول قبره عند دفنه، فأجاب بقوله:
" إن السنة في المحتضر وفي تشييع الجنازة وفي الدفن هو الصمت للتفكر والاعتبار. فإذا نطق الحاضر فليكن نطقه بالدعاء للميت، بالمغفرة والرحمة فإن دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مرجوة الإجابة، وأما قراءة القرآن عن الميت حين موته وحين تشييع جنازته وحين دفنه فلم تكن معمولا بها في زمان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- وزمان الصحابة، إذ لم ينقل ذلك في الصحيح من كتب السنة والأثر مع توفر الدواعي على نقله لو كان موجودا. إلا الأثر المروي في قراءة سورة (يس) عند رأس الميت، عند موته - على خلاف فيه-، ولهذا كان ترك القراءة هو السنة، وكان أفضل من القراءة في المواطن الثلاثة المذكورة".
هذه هي السنة وقد بينها أوضح تبيين، وعللها أحسن تعليل، ثم انظر إليه كيف أخذ يقاومها فقال:" وحينئذ فتكون قراءة القرآن في تلك المواطن إما مكروهة وإما مباحة غير سنة، فتكون مندوبة في جميعها وإما مندوبة في بعضها دون بعض".
إذا كان ترك القراءة هو السنة، فالقراءة قطعا بدعة إذ ما فعله النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- من القربات ففعله سنة وما تركه مما يحسب قربة مع وجود سببه فتركه هو السنة وفعله قطعا بدعة.
والقراءة في هذه المواطن الثلاثة التي حسب أنها قربة قد وُجد سببها في زمنه فمات الناس وشيع جنائزهم وحضر دفنهم، ولم يفعل هذا الذي حسب – اليوم- قربة، ومن المستحيل – شرعا- أن يترك قربة مع وجود سببها بين يديه ثم يهتدي إليها من يجيء من بعده ويسبق هو إلى قربة فاتت محمدا – صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والسلف الصالح من أمته. ولا يكون الإقدام على إحداث شيء للتقرب به مع ترك النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- له مع وجود سببه إلا افتياتا عليه وتشريعا من بعده وادعاءً – ضمنيا- للتفوق عليه في معرفة ما يتقرب به والحرص عليه، والهداية إليه، فلن يكون فعل ما تركه – والحالة ما ذكر- من المباحات أبدا بل لا يكون إلا من البدع المنكرات. فبطل قوله:" وإما مباحة غير سنة".
بعد هذه المقاومة بالباطل فرع عليها مقابلة بالتناقض فقال:" فتكون مندوبة في جميعها وإما مندوبة في بعضها".
أفيجهل أحد أن المباح هو ما استوى فعله وتركه، وأن المندوب هو ما ترجح فعله على تركه. أو أن المباح من حيث ذاته غير مطلوب الفعل ولا مطلوب الترك، وأن المندوب مطلوب الفعل فكيف يتصور أن القراءة إذا كانت مباحة تكون مندوبة في الجميع أو في البعض، أم كيف يتفرع الضد عن ضده؟؟ ولما ثبت أن ترك القراءة هو السنة وأن القراءة بدعة فأقل ما يقال فيها أنها مكروهة، ولا خلاف بين المالكية، أن الكراهة هي مذهب مالك وجمهور أصحابه، وقد نقل فضيلته سماع أشهب من العتبية قال:" سئل مالك عن قراءة (يس) عند رأس الميت، فقال: ما سمعت بهذا وما هو من عمل الناس"، فهذا تصريح منه بأنه رده لأنه محدث ليس عليه عمل السلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين.
وإذا كان هذا قوله فيما جاء فيه أثر - وهو قراءة يس عند رأس الميت- فغير هذا الموطن مما لا أثر فيه، أولى وأحرى بالكراهة. والتعليل بأنه ليس عليه عمل الناس يفيد أن مجرد فعل القراءة مكروه لأنه عمل مخالف لعملهم دون التفات إلى أنه اعتقد أن ذلك سنة أو لم يعتقد، إذ ما فعله إلا وهو يعتقد أنه قربة في تلك المواطن فيكون قصد القربة بما لم يجعله الشارع قربة، وهذا مقتض للكراهة، فقصد القربة وحده كاف في الكراهة دون حاجة إلى اعتقاد أنه سنة وبهذا بطل تأويل من تأول كلام مالك بمن قصد أنه سنة.
وبعد أن ثبت أن قراءة القرآن العظيم في تلك المواطن بدعة، وأنها مكروهة فهل هي كراهة تنزيه أو تحريم؟ ذهب الشاطبي إلى أن الكراهة حيثما عبر بها في البدعة فهي كراهة تحريم على تفاوت مراتبها في ذلك وساق على ذلك جملة من الأدلة الكافية في الباب السادس من كتابه (الاعتصام)، فأجمل فضيلته في الإشارة إلى مذهب الشاطبي إجمالا أظهره به مظهر من تكلم في خصوص هذه المسألة فتوهم وتقوَّل على الإمام فقال:
" وليس المراد بالكراهة الحرمة كما توهمه الشاطبي في كتاب (الاعتصام) مستندا إلى أن الإمام قد يعبر بالكراهة ويعني بها الحرمة لأن كلام مالك لم يقع فيه لفظ الكراهة بل هي من تعبير فقهاء مذهبه تفسيرا لمراده. لأن علماء مذهبه متفقون على أن مراد مالك من كلامه في المدونة وفي السماع هو الكراهة بالمعنى المصطلح عليه في الفقه، ولأن دليل التحريم لا وجود له فحمل كلام مالك عليه تقول عليه والإقدام على التحريم ليس بالهين إذ لم تقم عليه الأدلة الصريحة
"لم ينصف فضيلته الشاطبي في الصورة التي صور بها كلامه وفيما رواه به. وكل ذلك لأجل أن يتوصل إلى تهوين ارتكاب بدعة القراءة في المواطن الثلاثة لأنها من المكروه الذي لا يعاقب على فعله، ونحن نذكر فيما يلي ما هو تلخيص لبعض ما استدل به الشاطبي وزيادة عليه:
إن من ابتدع مثل هذه البدعة التي هي تقرب فيم لم يكن قربة كأنه يرى أن طاعة لله بقيت تنقص هذه الشريعة فهو يستدركها وأن محمدا – صلى الله عليه وآله وسلم- خفيت عليه قربة هو اهتدى إليها أو لم تخف عليه ولكنه كتمها، وهذه كلها مهلكات لصاحبها فلا يكون ما أوقعه فيها من ابتداع تلك التي يحسبها قربة إلا محرما. وقد قال مالك فيما سمعه منه ابن الماجشون:" من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم- خان الرسالة، لأن الله يقول:" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" ، هذا من جهة النظر المؤيد بكلام مالك، وأما من جهة الأثر فقد جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- كان يقول في خطبته:" أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" وفيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-:" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا"، ووجه الدليل من الحديثين أنه سمى في الحديث الأول البدعة شرا وضلالا فعم ولم يخص، وأثبت الإثم لمرتكب الضلالة والداعي إليها والإثم لا يكون إلا في الحرام فيكون النظر هكذا:" كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة يؤثم صاحبها، فكل بدعة يؤثم صاحبها، وكل ما يؤثم صاحبه عليه فهو حرام: فكل بدعة حرام".
وقد دخلت بدعة اختراع القرب في قوله:" وكل بدعة ضلالة" بمقتضى عموم اللفظ. و يدل على دخولها ما ثبت في الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- رد على من قال: أما أنا فأقوم الليل، ولا أنام، رد علهيم بقوله:" من رغب عن سنتي فليس مني" ولم يكن ما التزموه إلا فعل مندوب في أصله أو ترك مندوب ومع ذلك رد عليهم بتلك العبارة التي هي أشد شيء في الإنكار فكل من أراد أن يتقرب بما لم يكن قربة فهو مردود عليه بمثل هذه العبارة الشديدة في الإنكار. ويدل أيضا على دخولها ما ثبت في الصحيح عن قيس بن حازم قال: دخل رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- على امرأة من قيس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم، فقال: مالها؟ فقال: حجت مصمتة، قال لها:" تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية"، فهذه أرادت أن تتقرب بما ليس قربة فجعل فعلها من عمل الجاهلية وقال: إنه لا يحل، فكل مريد للتقرب بما لم يكن قربة فيقال في فعله ما قيل في فعلها. ووجه الدليل من الحديثين أن التقرب بما ليس قربة أنكر أشد الإنكار وقيل فيه
لا يحل)، وقيل فيه
من عمل الجاهلية)، فلا يكون بعد هذا كله إلا ضلالا فيدخل – قطعا- في عموم قوله:" وكل بدعة ضلالة" فيثبت له التحريم بالنظر المتقدم.(لها بقية) (عبد الحميد بن باديس)