غليكم المقالة السابعة للشيخ عبد الحميد بن باديس والتي نشرت في مجلة البصائر: س1 العدد 27 الجزائر يوم الجمعة 20 ربيع الثاني 1355هـ الموافق ليوم 10 جويليت 1936 م الصفحة 3 العمود 2 من الصفحة 6.
-3-
الاستدلال بترك النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- أصل عظيم في الدين، والعمل النبوي دائر بين الفعل والترك، ولهذا تكلم علماء الأصول على تركه كما تكلموا على فعله، وقد ذكرنا جملة من كلامهم فيما قدمنا، غير أن تقرير هذا الأصل الذي يهدم بدعا كثيرة من فعل ما تركه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- مما يتأكد مزيد تثبيته وبيانه، إذ بالغفلة عنه ارتكبت بدع وزيدت زيادات ليست مما زيدت عليه في شيء، وحسبك أن مثل هذا العالم يقرر في ذيل فتواه أن" السكوت ترك فلا يدل على استحباب السكوت ولا على كراهة ضده" فالترك إذا ليس دليلا شرعيا، ولهذا أردنا أن نعود إلى بيان هذا الأصل ونقل كلام أئمة الأصول والنظر فيه.
قال الإمام الشاطبي في آخر الجزء الثاني من كتاب (الموافقات):" والجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع السكوت عن شرع
ص105 التسبب أو شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له، وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين:
أحدهما: أن يسكت عنه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقرر لأجله؛ كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذاك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تقرر في كلياتها، وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم، كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعا بلا إشكال، فالمقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل.
والثاني: أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم، فلم يقرر فيه حكم عند النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان، فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أنه قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص، لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا ثم لم يشرع الحكم ولا نبه عليه كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هناك بدعة زائدة ومخالفة لما قصد الشارع، إذ فهم من قصده الوقوف عندما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه ومثال هذا سجود الشكر في مذهب مالك، وهو الذي قرر هذا المعنى في العتبية من سماع أشهب وابن نافع، ثم نقل كلام مالك وبينه، وتطبيق هذا الأصل على مسألتنا أن نقول
أن المقتضى للقراءة- وهو حصول البركة للميت ووصول الثواب إليه- قائم ومع قيامه فقد ترك النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- القراءة ففهم من هذا الترك مع قيام المقتضي أن قصد الشرع هو الوقوف عندما بين السكوت والاعتبار، وأن زيادة القراءة في ذلك الموطن بدعة زائدة ومخالفة لما قصد الشارع وإن كانت عبادة من حيث ذاتها، كما قال مالك في سجود الشكر عند الأمر
ص106 تحبه" لا يفعل هذا مما مضى من أمر الناس" وإن كان السجود في نفسه عبادة، ثم قال أبو إسحاق الشاطبي في آخر الفصل المذكور: " وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل وأنها بدعة منكرة من حيث وجد في زمانه -عليه السلام- المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليرجعهما كما كانا أول مرة، لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها، وهو أصل صحيح إذا اعتبر وصح به الفرق بين ما هو من البدع وما ليس منها، ودل على أن وجود المعنى المقتضى مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة ما كان موجودا قبل، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل.
وقد قرر هذا الأصل الإمام ابن القيم في آخر الجزء الثامن من كتاب (إعلام ا الموقعين) عندما تكلم على ما ورد من السنن الثابتة من دون معارض، وطبق هذا الأصل على مسألتنا شيخنا الشيخ بخيت الحنفي مفتي الديار المصرية -رحمه الله- في كتابه(أحسن الكلام) فقال:" وأما رفع صوت المشيعين للجنازة بنحو قرآن أو ذكر أو قصيدة بردة أو يمانية فهو مكروه لا سيما على الوجه الذي يفعل في هذا الزمان ولم يكن شيء منه موجودا في زمن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- ولا في زمن الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف الصالح، بل هو مما تركه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى لفعله فيكون تركه سنة، وفعله بدعة مذمومة شرعا كما هو الحكم في كل ما تركه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضى لفعله" وقال أيضا:" وأما ما يفعل في زماننا أمام الجنائز من الأغاني ورفع الصوت بالبردة واليمانية على الوجه الذي يفعل في هذا الزمان والمشي بالمباخر فلا يقول بجوازه أحد".
ص107 فهذا الأصل العظيم الذي قرره مالك- رحمه الله- وهو أن ما تركه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضي فالدين تركه- وبينه أبو إسحاق الشاطبي- قد رأيت تقريره والاستدلال له والتفريع عليه من جماعة غير مالكية كابن السمعاني و القسطلاني الشافعيين وابن القيم الحنبلي والشيخ بخيت الحنفي مع تطبيق هذا الأخير له على عين مسألتنا، فلم ينفرد به مالك من أئمة الاجتهاد والفتوى ولا أبو إسحاق الشاطبي من أئمة الأصول والنظر، نقول هذا لأن المتأولين للبدع والمنكرات- مثل فضيلته- أصبحوا وكأنهم يتبرمون بقول مالك وشدته فيها ويحاولون التملص إلى أقوال ولو لم تكن منزلة قوله في الاستدلال والنظر حتى زعم فضيلته أن لمالك مخالفين في القراءة عند التشييع، وجاء لهم بمدرك وحاول أن يهدم به هذا الأصل العظيم، أما أبو إسحاق الشاطبي فقد صار يوصم عند بعض أنصار البدعة والمتأولين لها بالشذوذ وما ذنبه عندهم إلا نصرته للسنة بكتابه الفريد، في بابه كتاب (الاعتصام) وبفصول من كتابه الفريد الآخر (الموافقات).
ولقد كنا أيام الطلب بجامع الزيتونة – عمره الله- نسمع من شيوخنا كلهم الثناء العاطر على هذا الكتاب وصاحبه وكانت له عندهم منزلة عظيمة، وأحسن الدروس في المناظرات الامتحانية هو الذي رصعه صاحبه بكلام الشاطبي وأحسن فهمه وتنزيله فليت شعري! ماذا يقول المتأولون للبدع والمنكرات- مثل فضيلته- فيه اليوم وقد أصبح حجة للمصلحين.
وقد بلغني أن كتاب (الموافقات) قد قرر تدريسه بالجامع – عمره الله- وأن الذي يدرسه للشيوخ هو الشيخ عبد العزيز جعيط أحد المفتين المالكيين والمترشح- فيما يظهر- لمشيخة الإسلام بعد عمر طويل – إن شاء الله- لشيخ الإسلام الحالي، ولعله مر في درسه
ص108 على هذا الفصل الذي نلقاه الذي نقلناه من الموافقات في تقرير الأصل المتقدم أو قاربه، فماذا قال أو يقول عنه؟ أن هذا الأصل وهو أن ما تركه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضي فالدين تركه والزيادة عليه بدعة مذمومة مخالفة لمقصد الشارع – وهو حجة المصلحين في رد بدع الغالين والمتزيدين، فماذا قلت يا فضيلة الشيخ عبد العزيز أو ماذا تقول، بين! بين! فإنك تعرف وعيد الكاتمين، وإلا فعليك – لا قدر الله- إثم الهالكين والمعاندين . (عبد الحميد بن باديس)