ولقاضي الجماعة بحاضرة غرناطة الفقيه أبي الحسن بن عبد الله بن الحسن في الرد على من أنكر على المصلي بالناس الارتباط للدعاء إثر الفراغ من الصلاة بالمسجد، وتشريك المصلين معه فيه، وتأمين الحاضرين له عند سماعه ما نصه:
وتقرر أولا أنه لم يرد في الملة نهي عن الدعاء دبر الصلاة على ما جرت به العادة اليوم من الاجتماع، بل جاء الترغيب فيه على الجملة:
ففي الصحيح من حديث الماجشون بن أبي سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استفتح الصلاة كبر، وإذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، وإذا سلم دعا.
وفي مسلم بن الحجاج: ولم يقل بين التشهد والتسليم.
وعن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة وسلم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لامانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وفي الخبر أن معاوية كان يأمر الناس بذلك.
قال عماد الدين إسماعيل بن الأثير: فيه دليل على استحباب هذا الذكر المخصوص عقب الصلاة وذلك لما اشتمل عليه من معاني التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله تعالى، والمنع والإعطاء وتمام القدرة.
والدعاء من الشهرة بحيث لا يفتقر إلى إقامة الحجة وتقرير الأدلة، وإنما الحاجة فيما يختص بالمسألة.
ومنه عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهن، لا يؤم رجل فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن، فإن فعل فقد خان، ولا يصلي وهو حقن حتى يتخفف".
قال عبد العزيز بن إبراهيم التونسي في شرحه لكتاب الأحكام: محمل نهيه عليه السلام على أن يخص نفسه في الدعاء عام في كل دعاء في الصلاة وما يتصل بها من الأدعية التي يدعو بها الأئمة أدبار الصلوات.
ثم نقل عن محمد بن فرج صاحب كتاب الأقضية أنه قال: لا يشك أحد أن الدعاء بعد الصلاة من الفضائل.
ومن حديث ثوبان أيضا أنه عليه السلام كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال:" اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام".
وفي الصحيح من حديث ابن عباس: كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير.
وفي رواية: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف المصلي من المكتوبة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت أعرف إذا انصرفوا بذلك.
قال الطبري: فيه الإبانة عن صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء، يكبر بعد صلاته ويكبر من خلفه.
قال غيره: ومنهم من جعل بدل التكبير الدعاء والاجتماع عليه بعد الصلاة.
وفي الواضحة عن ابن حبيب: كانوا يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء تكبيرا عاليا ثلاث مرات، وهو قديم من شأن الناس، وفيه إظهار لشعائر الإسلام وتضافر جماعته بأرض الحرب.
ومن حديث عبد الله بن الزبير أنه عليه السلام كان يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل والثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
ومن حديث معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:" أوصيك يا معاذ لا تدعَنْ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
إلى غير ذلك من الأدعية المأثورة والأذكار المشهورة ومجموعها حجة في هذا الباب لأن الدعاء ذكر، والسنن في هذا المعنى من الكثرة بحيث تحصل الاستفاضة في أن دبر الصلاة المفروضة محل لمشروعية الأذكار والأدعية، و أن تلك المشروعية تعم ولا تخص وكل مسلم مطلوب منه الأخذ منها بحظ.
قال عياض: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستعاذته من بعض الأمور التي قد علم أنه عوفي منها وعصم ليلزم نفسه خوف الله وإعظامه والافتقار إليه ولتهتدي به أمته، وليبين لهم سنته في الدعاء والضراعة، وهي حقيقية العبودية، وكيفية الدعاء من التوجه والتضرع ومراتب الجهر الإسرار معروفة.
وتكلم الفقهاء في رفع اليدين عنده، فعن مالك في العتبية: رأيت عامر بن عبد الله بن الزبير يرفع يديه وهو جالس بعد الصلاة يدعو، فقيل لمالك أترى به بأسا؟ قال: لا أرى به بأسا ولا يرفعهما جدا.
قال القاضي أبو الوليد بن رشد: إجازة مالك في هذه الرواية لرفع اليدين في الدعاء عند خاتمة الصلاة نحو قوله في المدونة لأنه أجاز فيها رفع اليدين في مواضع الدعاء كالاستسقاء وعرفة والمشعر الحرام، لأن خاتمة الصلاة موضع الدعاء، ثم قال: وقد سئل في سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة عن رفع اليدين في الدعاء فقال: ما يعجبني، فظاهره خلاف لما في هذه الرواية ولما في المدونة، وقد يحتمل أن يُتأول ذلك على أنه أراد الدعاء في غير موضعه، ولذلك قال: لا يعجبني رفع اليدين فيه.اهـ
وفي كتاب محمد بن إسماعيل البخاري: باب رفع الأيدي في الدعاء، ولم يذكر فيه عن أحد ما يخالف ذلك.
وفي الترمذي ترفعهما إلى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا رب، يا رب.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: يرفع يديه إلى ربه، يعني بعد الصلاة، فأما الرفع في الصلاة فقد تقدم ذكره، ولا يكون فيها ببطونهما إلى السماء وإنما ذلك في الدعاء ففي هذا الحديث الدعاء بعد الصلاة وأنه من تمامها وفضلها، ورفع اليدين بالبطون إلى الوجه كما يفعله الناس اليوم.
وفي جامع العتبية قال سفيان: الدعاء رفع بطون الأيدي والابتهال مد اليدين.
وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه.
وفي أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بهما على وجوهكم.
قال القاضي أبو محمد بن الفرس في أحكام القرآن له: اختلفوا في الرفع إلى أين يكون، فقيل إلى الصدر، وقيل إلى الوجه، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في الدعاء حتى يبدو بياض إبطيه وخرجه البخاري ولم يحد فيه بعضهم حدا ورأى الأمر فيه واسعا، ثم قال: وهذا منه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه من التضرع الذي أمر الله تعالى به فقال: ادعوا ربكم تضرعا وخفية. اهـ.
والذي عليه أكثر الناس لهذا العهد البدار إلى الدعاء عند تمام المكتوبة من غير فصل بِتَنَفُّلٍ في الأوقات التي يسوغ فيها التنفل أو بذكر من الأذكار، ودليلهم على ذلك وهو من الأصول المعتمدة في مشروعية الدعاء دبر الصلوات قوله عز وجل:" فإذا فرغت فانصب".
قال ابن عباس وقتادة معناه فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء أي اتعب فيه، والنصب هو التعب، ووقوعه في الدعاء مؤذن بالإكثار منه والإلحاح فيه حتى يبلغ الداعي الجهد.
وقال عبد الحميد بن حميد في تفسيره: حدثنا يعلى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، وإلى ربك فارغب.
وعن الضحاك أنه قال: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب في الدعاء، وإلى ربك فارغب.
وقال الفراء في تفسيره: فإذا فرغت فانصب إلى ربك في الدعاء وارغب والفاء للتعقيب.
ومن شرح البخاري لعلي بن خلف: روى الطبري عن جعفر بن محمد قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة، كفضل المكتوبة على النافلة.
ومنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وضعت الصلاة في خير الساعات فاجتهدوا في الدعاء دبر الصلوات. قال الطبري: وحدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان التميمي عن قتادة عن أنس بن مالك قال: إذا أقيمت الصلاة فتحت أبواب الجنة واستجيب الدعاء، ومن الناس من يذهب بعد أداء الفريضة إلى الاشتغال بالنافلة عند الأوقات المسوغة لها، وحينئذ يكون الختم بالدعاء، وفي ذلك ملاحظة فراغ المسبوقين من قضاء ما فاتهم حضوره مع الإمام، ورفع للتوقع من التخليط على بعضهم بأصوات التأمين، ويأتي على هذا الترتيب اجتماع المصلين بعد في حالة واحدة على الدعاء، والناس في الأدعية مختلفون ما بين مطول ومختصر.
وقد جاءت الأحاديث بالأمر بالدعاء إلى الله في كل شيء، وروي عن بعض السلف استحباب الدعاء بالجوامع كقوله عليه السلام: اللهم إنا نعوذ بك من من فتنة المحيا والممات، ونسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة".
ونبهوا على ترك التكلف والتصنع فيه، للحديث الوارد في البخاري عن ابن عباس، وهو أنه قال لعكرمة: انظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك.
قال الشارح له: وإنما نهي عن السجع في الدعاء والله أعلم لأن في طلبه تكلفا ومشقة وذلك مانع من الخشوع وإخلاص التضرع لله، وأما إذا تكلم به الداعي طبعا من غير مؤونة ولا تكلف أو حفظه قبل وقت دعائه مسجوعا فلا يدخل في النهي عنه، لأنه لا فرق حينئذ بين المسجوع وغيره، لأنه لا يتكلف صنعته وقت الدعاء و لا يشغل به فكره فيمنعه من الخشوع.اه.
ولا منازع من العلماء في جواز السجع إذا جاء في الدعاء من غير عناء، ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم إني أعوذ بك من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق".
إلى غير ذلك من الدعوات المسجوعة الثابتة في الأمهات فمن الصحيح:" إذا أمن الإمام فأمنوا"
ومعناه: إذا دعا؛ فالداعي يسمى مؤمنا كما يقال للمؤمن داع.
ومعنى:" من وافق قوله قول الملائكة" أي ساعدهم وقت تأمينهم.
" غفر له ما تقم من ذنبه" والمراد بالملائكة هنا: الحفظة المتعاقبون بالليل.
وقيل: من وافق تأمينه تأمين الملائكة من الصفة في الخشوع والإخلاص عند قراءة أم القرآن.
قال القاضي أبو الفضل في إكماله: وكما أن الله تعالى جعل من ملائكته مستغفرين لمن في الأرض ومصلين على من صلى على النبي عليه السلام، وداعين لمن ينتظر الصلاة فكذلك يجعل فيهم من يؤمن عند تأمين المؤمنين أو عند دعائهم.اهـ.وقاله غيره.
وفي الصحيح: " إن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم "
قال أهل العلم في تفسيره أي: إن ذكرني في ملإ من الناس بالدعاء والتضرع ذكرته في ملإ من الملائكة الذين هم أفضل من ملإ الناس بالمغفرة والرحمة والهداية، وكأنه لما خيف على الناس من الانهماك في الاشتغال بالدنيا عن الآخرة وبهموم أولادهم عن ذكر الله جعل لهم في مجتمعهم للصلوات وهو مظنة الاستجابة اجتماع على الدعاء، وأكثر الخلق عوامهم، والظاهر من حالهم القصور عن المعرفة المكملة بالأدعية ومعاني ألفاظها، وأئمتهم في الغالب أعلم منهم بها، فخصوا بالتقدم إلى الدعاء، والغير من المصلين خلفهم بالتأمين، والمؤمن أيضا داع، ودعاء المؤمنين للمؤمنين مرجو البركة، قوي في باب الإجابة، ومتى يقدر الشخص الواحد على إحضار جماعة يستوفيهم كلهم بالرغبة فيه إلى الله والتضرع.
وقد ورد: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".
وفيه الحض على تعاون المسلمين وتناصرهم وتآلفهم وتراحمهم إلى غير ذلك، ومن المعلوم أنه لا أفضل للعباد من وفائهم بما أوجبه الرب جل جلاله عليهم من الفروض، وندبهم إلى فعله من التقرب بالكلام الطيب الذي وصفه الله تعالى بأنه يصعد إليه ولاسيما إذا وقعت العبادة منهم في أحب الأماكن إلى المعبود سبحانه وهي بيوته التي خصت بالذكر وأسست على التقوى والبر.
وإذا كان معنى الحب من الله والبغض عائد على إلى إرادة الخير أو الشر أو فعل ذلك بمن أسعده الله أو أشقاه، واستبان للمتأمل أن المساجد مواضع نزول رحمة الله تعالى وفضله، وأنها من المواطن التي يغلب عن الظن فيها إجابة الدعوات، وبخصوص أدبار ما يقام بها من الصلوات حيث شهود الملائكة المكرمين، وتأمينهم عند تأمين عباد الله المؤمنين، ولذلك وقع العزم من العلماء العاملين، على عمران تلك الأوقات، بما أمكن من الدعوات، وحديث الملائكة الذين يبتغون مجالس الذكر مشهور، وفيه تفضيل أماكن الأذكار والأدعية، وإن لم الجالس فيها من أهلها، وفضل مجالسة أهل الخير وأن بركتهم تشمل كل من شاركهم في عمل من أعمال البر أو لابسهم، وأفضل المجالس المساجد كما تقدم، ومن الأدلة على تفضيلها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تَضعُفُ على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا".
قال القاضي أبو الفتح في كتابه المسمى بأحكام الأحكام: مقتضاه أن صلاته في المسجد جماعة تفضل على صلاته في بيته وسوقه وجماعة وفرادى بهذا القدر، لأن قوله: " صلاة الرجل في جماعة محمول على الصلاة في المسجد، لأنه قوبل بالصلاة في بيته وسوقه، ولو جرينا على إطلاق اللفظ لم تحصل المقابلة، لأنه يكون قسيم الشيء قسما منه وهو باطل.
وفي الصحيح قوله عليه السلام للفقراء:" أفلا أعلمكم ما تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم؛ تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين..الحديث بطوله؛ وفيه تعليم كيفية هذا الذكر، وقد كان يمكن أن يكون فرادى أي كل كلمة وحدها وكل شخص وحده، ولو فعل لحصل به المقصود لكنه بين في هذه الرواية أنه يكون مجموعا ويكون العدد للجملة، وفيه أيضا الحض على التسبيح و التحميد في أدبار الصلوات، وأن ذلك يوازي في الفضل إنفاق المال في طاعة الله، وعلى كل تقدير فالأعداد معتبرة في كثير من أحكام الشريعة، ولذلك فضلت صلاة الجماعة صلاة الفذ، ورغب الناس في الاجتماع بالمساجد، ولاسيما على رأي من قال منهم بزيادة فضيلة الجماعة الكبرى على الصغرى، وهو مذهب الشافعي، ودليله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أفضل من صلاته مع الرجل".
وقد جاء في الجنائز:" ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه".
ونقل أن الأذان بالجنازة والإعلام بها من السنة وهو معلل بذلك والله أعلم.
فتحصل بعد ذلك كله من المجموع أن عمل الأئمة لم يزل منذ الأزمنة المتقدمة مستمرا في مساجد الجماعات وهي مساجد جوامع، وفي مساجد القبائل وفي مساجد الأرباض والروابط، على الجهر بالدعاء بعد الفراغ من الصلوات، على الهيئة المتعارفة الآن من تشريك الحاضرين وتأمين السامعين وبسط الأيدي ومدها عند السؤال والتضرع والابتهال من غير منازع وتبين مما تقرر أن منكر الآن لذلك كله والمخالف في عمله هو من الانحراف عن الجادة بالمنزلة التي لا يغيب غلطها عن الناظر فيها ببديهة عقله فالدعاء كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "مخ العبادة" والإتيان بكل اعتبارها هو عبادة أولى من المتاركة وهو حق الحق سبحانه فإن فيه إظهار فاقة العبودية والاضطرار والفقر إلى الله عز وجل والتذلل له والخضوع لعزته وقد ورد في قوله تعالى ويقبضون أيديهم أنهم كانوا لا يمدونها إليه في السؤال استكبارا فذمهم الله على ذلك ومن العلل الداخلة على تارك الدعاء جهرا في المسجد عقب الصلاة إذا كان مصليا فيه بغيره أن حالته تحمله في الغالب على الإعجال بالانفصال لما قد ارتكبه من الإنكار ولما علم من الكلام في قعود الإمام لغير ضرورة في مصلاه بعد انقضاء صلاته فيزعجه القلق للتخطي على رقاب بعض الحاضرين معه أو حملهم أيضا وهم كارهون على القيام لأجله وقد لا يسلم هو من قصد الإظهار للمخالفة بالفعل فتراه كالوجع بالإسراع والإمساك عن الكلام وإن كان عمله بهذه الصفة من مجانبة السيرة المعتادة قل ما يتخلص الناظر له من الوقوع في جهة أو في من تقدمه من مشيخته وقد يظن في الإمام أنه في الدعاء على مذهب الواسطي وأصحابه من المتصوفة القائلين بأنه يقدح في التوكل أو على مذهب المعتزلة في قولهم لا فائدة في الدعاء مع سابق القدر فيكون المنكر كالخارج من السهل الرحب الواقع بإنكاره في الحرج الصعب.
ولا شك في أن من تحيز من الأمة إلى جانب معارضتها واستخف ارتكاب منابذتها وكان له غرض في الانفراد عنها والازورار عن جهة من لا يتابع يتابعه منها فهو على غرر كبير وغرور مبين، فخرج المرء في وطنه عن شكله وثقته برأيه واستحسانه لعمله من الأدلة على فساد عقله وقد يحمله الاستبلاغ في المخالفة على الرمي بالتجهيل والتضليل للجماعة وفي الحديث الصحيح "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وفيه: "سددوا وقاربوا" أي اقتصدوا ولا تغلوا، ومنه" هلك المتنطعون" وهم المتعممون الغالون. وعنه عليه السلام أنه قال: من قال هلك الناس فهو أهلَكُهُم" وضبطه بضم الكاف بعضهم، ولا ريب في أن من باين الناس كلهم أو أكثر أهل الخير منه لغير ضرورة تلحقه، وصار باستحقاره لهم أمة وحده، أو أراد حملهم على طريقته الخاصة به، فقد جعل للشيطان السبيل إلى فتنته بما يدخله عليه من الدواخل التي منها إعجابه بنفسه، وكبره على أكابر جنسه.
ومن المدارك عن مالك رضي الله عنه قال: شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد عمل به الناس، ومن كلامه: ليس كل ما قاله الرجل وإن كان فاضلا يتبع ويجعل سنة ويذهب به إلى الأمصار،قال الله تعالى:
" فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه".
ومن التمهيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الدعاء ويحضهم عليه ويقول:" إن الدعاء هو العبادة" ويتلو:" وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" .
وفي كتاب الدعاء من البخاري باب الدعاء بعد الصلاة ثم ذكر فيه أحاديث ولم يخص إماما ولا غيره، ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الإمام وقد كان يستعمل في أدبار الصلوات جملا من الذكر والدعاء ويرغب المسلمين في ذلك ويغبطهم به ويندبهم إليه، وفي فعله عليه السلام وتعليمه ما يدل على عظيم موقع الدعاء من الدين وفضله، وأن من أماكنه المساجد، وبخصوص عند الفراغ من الصلاة وبمحضر الجماعة لأمور منها؛ أن الغالب على الإنسان حينئذ أن يكون على أكمل الحالات من الاستعداد المنبه عليه في الصحيح، ومنه في البخاري باب الوضوء عند الدعاء وعند ذكر الله، وذلك من كمال صفات الداعي والذاكر؛ قال أهل العلم: وهو مما ترجى به الإجابة لتعظيمه لله وتنزيهه له حين لم يذكره إلا على الطهارة، وعلى هذا مضى صلى الله عليه وسلم ودرج عليه سلف الأمة، فكانوا لا يفارقون حال الطهارة ما قدروا لكثرة ذكرهم لله عز وجل.
وعن الحسن عن أبي أمامة قال: قيل: يا رسول الله أي الدعوات أسمع؟ قال: جوفَ الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبة".
وفي الاجتماع على الدعاء التعاون على البر والتعظيم لله عز وجل والثناء، وقد جاء أن دعاء المؤمن لأخيه مستجاب، وفي الحديث أيضا:" أسرع الدعوات إجابة دعوة الأخ لأخيه المسلم". جعلنا الله من الداعين بخير، وصرف عنا كل ضير.
وبلغنا عن أحد أتباع المنكر أنه قال ما حاصله: لا نزاع في أصل الأدعية، وإنما النزاع في تحقيق الكيفية، إذ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص جلي في أن دعاءه بما نقل من الدعوات الواقعة أدبار الصلوات كان جهرا منه، بحيث يتلقاه المصلي خلفه من لفظه في الحال قبل السؤال عن مقتضاه فالتوقف عن رفع الصوت والتجميع لازم حذرا من الوقوع في الممنوع، والمقصود يحصل من المطلوب باستعمال الدعاء سرا على الانفراد.
والجواب أن الأصل في الأشياء التي تذهب النفوس إلى التلطف بها والإخبار عنها الكلام الذي هو الأصوات المقطعة والعبارات المختلفة، ومن يدعي خلاف ذلك من تغليب الفوْع وإدخال الشك في الحاصل من التصديق المحض فعليه بالدليل، ونقول مع ذلك: الأصل في الكلام الحقيقة، ومنها بقاء الألفاظ على أوضاعها، ومبادرة الفهم إلى الحقائق أقوى من مبادرته إلى المجاز، ونحن نتمسك في أمور باستصحاب الأصول إلى أن يقع النقل بموجب فالترجيع من غير مرجع باطل، والخوض فيما يرجع إلى الدين بمجرد الشهوة أيضا باطل، والذي يسبق إلى الذهن ويصح بالاستقراء في العقل أن الإنسان إذا قال سمعت فلانا يقول: كيت وكيت إنما يحمل على أنه تلقاه شفاها منه وسمعه يتكلم جهرا به، وأن سمعه وعى ما قاله عند سماعه للفظ قائله، لا أنه علمه بالتوهم أو بالتوسم، أو عند استعمال الوسائط والوسائل، والسماع من الغير عن القائل، ومن هذا الباب وقع الكلام في المراسل، فالمرسل عند المحدثين هو: ما أرسله التابعي وقال فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ذكر الصحابي، والمنقطع ما أرسله الراوي دون التابعي، ووقع الإجماع على أن من سمع الحديث من التابعي عن الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقوى طمأنينة لصحة حديثه، ثم من سمعه من الصحابي كان أعلى درجة في قوة الطمأنينة، وإن كان الوهم والنسيان جائزا على البشر، حتى إذا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ارتفعت أسباب التحذير وانسدت أبواب الاحتمالات، وإذا كان على ما تقرر فقد ثبت في الصحيح ما فيه الحجة الماحية لشبهة المعترض، ومنه عن زيد بن أرقم أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دبر كل صلاة: اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن أنت الرب وحدك لا شريك لك، ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك.." الحديث بطوله.
وعن عبد الله بن الزبير أنه عليه السلام كان يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله ولا إله إلا الله ولا نعبد إلا الله.." الحديث وفي بعض طرقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة قال بصوته الأعلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له..إلخ
و عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أوصيك يا معاذ لا تَدَعَنَّ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك " إلى غير ذلك مما جاء في هذا الباب.
ولفظة كان الواقعة في الأحاديث تؤذن عل ما قاله أهل العلم بكثرة الفغل والمداومة عليه وجه آخر من الرد على من ظن أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم دبر الصلاة كان سرا لا جهرا أو شك فيه وهو ما ورد عن أبي هريرة أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي رأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ما تقول؟ قال: أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب.." الحديث، والمراد بالسكتة هنا السكوت عن الجهر لا مطلق القول، وقوله:" ما تقول؟" يشعر بأنه فهم أن هناك قولا وفي مضمن هذا الحديث دلالة واضحة على أن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم دبر الصلاة المكتوبة كانت جهرا إذ لو كانت سرا لم تنقل على الأوجه المتقدمة ولكان قد سأل عن مقتضاها أبو هريرة كما قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما رآه سكت بين التكبير والقراءة بأبي أنت وأمي أو غير أبي هريرة مثلا من المصلين خلفه ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم فدل على أنه لم يكن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وفيه الأسوة الحسنة.
والمختار أن كل ما أتى به الرسول عليه السلام فالإتيان بمثله متعين إلا إذا دل على خلافه دليل منفصل، لقوله تعالى:" واتبعوه لعلكم تهتدون" والاتباع عبارة عن الإتيان بمثل ما أتى به المتبوع، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من دعا إلى هَدْيِ كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا يَنقُص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل ما آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا". ومعناه كالحديث المتقدم الذي أوله " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ". قال بعض الشراح له: الهدي هديان؛ هدي دلالة و إرشاد وبيان وهو الذي يضاف إلى الرسول والقرآن والعباد، والهداية الثانية بمعنى التأييد والعصمة والتوفيق، وهي التي تفرد بها الباري جل جلاله، وكذلك روي عن العتبي في العقل أنه عقلان، قال: فعقل تفرد الله عز وجل بصنعه، وعقل يستفيده المرء بأدبه وتجربته؛ ولا سبيل إلى العقل المستفاد إلا بصحة العقل المركب في الجسد، فإذا اجتمعا قوى واحد منهما صاحبه تقويه النار في الظلمة نور البصر.
والكلام هنا يطول، فنرجع فنقول، في الكتاب العزيز:" من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها.." الآية، وفيها تأويلات منها: أن الشفاعة الحسنة هي الدعاء للمؤمن، وفي الحديث:" أئمتكم شفعاؤكم".
ولا شك في أن من أخذ منهم بالدعاء جهرا دبر كل صلاة ولم يخص به نفسه دون المصلين خلفه، وأخلص فيه نيته واستشعر عند تأمين عباد الله المؤمنين تأمين الملائكة المكرمين، فاغتنم ما لتلك الساعة المباركة من الفضل الثابت بصريح النقل، فقد دل على خير وإرشاد إلى طريق برّ وبين بقوله وفعله وجه حق، وأن من ذهب إلى المخالفة اليوم في ذلك كله وعده من محدثات الأمور العائدة على فاعلها بالملامة، فقد تعرض إلى وقوع في المحظور، اللهم ما كان محدثا داعيا إلى زيادة في الدين لم يثبت لها من أصل في الشرع فلا منازع في المنع، قال ابن الأثير: ومثاله ما أحدثه الروافض من عيد ثالث، وقد كان هذا المنكر لدعاء الأئمة بالمساجد يهتم بما أفصح به الآن من ذلك ودعا إليه أيام حياة شيخه الأستاذ الإمام أبو سعيد بن القاسم بن لب، وبلغه مقاله إذ ذاك فراجعه رحمه الله وأرضاه بجزء حسن قيده في النازلة سماه "لسان الأذكار والدعوات مما شرع في أدبار الصلوات" ومنه ما نصه: وربما يتعلق في المسألة بنهي مالك رضي الله عنه عن التزام أبواب من النوافل مخافة أن يعتقد فيها أهل الجهل لحاقها بالفرائض، كما كره صيام ستة أيام من شوال مع ما ورد فيها من الترغيب، فيقال أولا: هذا شيء متنازع فيه بين الأئمة، والأصل القيام بالمشروع والمسارعة إلى فعله وأن لا يعارض ذلك بما عسى أن يعتقده جاهل بسبب جهله، ألا ترى أن في الوضوء والصلاة والصيام وسائر الوظائف المشروعة فرائض وسننا وفضائل يقام بها ويثابر عليها، ولم يقل أحد بترك نوافلها مخافة اعتقاد الوجوب فيها، ثم قال: وإن الدعاء والذكر بعد الصلاة لا يوجد من يعتقد وجوبه لا من الخاصة ولا من العامة، وكثير من الناس ينصرف ويترك الإمام يدعو ولا يبالي، وأكثر الناس لا يدعو إذا صلى وحده، فإجراء ذلك الالتفات المالكي في هذا الموضع وأمثاله جهالة ظاهرة، لأنه قد أشكل على العلماء في محله الذي ورد عنه النص فيه، فكيف بأن يعدى إلى غيره، فمن وقف على ما تقدم من مقتضى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة بأمره، وفعله الأئمة بعده، وهم الأسوة والقدوة، ظهر له أن إنكار العمل في ذلك على المسلمين في هذه الأزمنة أحق بالإنكار والزجر والردع، حيث وفق الله سبحانه هذه الأمة المحمدية في هذه الأعصار التي عاد فيها الإسلام متصفا بالغربة إلى العمل بما هو مقتضى القرآن والسنة، ثم يقوم عليهم بالتبديع والتضليل والتخطئة والصد عن سبيل المثوبة ومصلحة الدنيا والآخرة، فخذه جهالة عظيمة، والخلاف كثير وظواهر الشريعة هي الجادة يجب الرجوع إليها عند اشتباه الطرق واختلاف الفرق، وما حمل من أنكره إلا أنه أبصر ما أمامه ولم يلتفت إلى ما خلفه ووراءه، ووقف على بعض مسائل في المذهب لم يهتد لواضح سبيلها ولا شعر بوجهها ودليلها، ولا علم اختلاف العلماء في أصلها، ولم يعطها من الفهم والتأمل حقها، ورأى أن العمل بغير ما انتهى إليه فهمه فيها، فظن أن لا علم إلا ما علم، ولا فهم إلا ما فهم، فاستحقر العامة وجهل الخاصة، ورأى أنه وحده على الجادة، وصار في قيامه على الناس بالنكير، كما قال في المثل: إِنبَاضٌ من غير توتير وحاد ليس له بعير.اهـ. منقول من الجزء المذكور.
وإن قال قائل: هذا الكلام فيه تحامل على الرجل المنكر لما ذكرتم، فإنه لم يقصد على ظاهر حاله بإنكاره غير التوثيق للنفس الضعيفة والاحتياط بالوقوف عند الحدود البينة وعدم الإقدام على ما ليس يراه من السنة.
فالجواب له: أخذ المنكر بما فيه مخالفة جماهير المسلمين وتخطئة جميع من عاصره أو مضى قبله من المتقدمين جرأة كبيرة وجسارة عظيمة، وفي الرد على مرتكب هذه الطريقة وجوه كبيرة: منها ما وقع في كتاب البخاري؛ باب الحجة على من قال أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة وما كان يغيب بعضهم من مشاهدة النبي عليه السلام وأمور الإسلام.
قال أحد الشارحين له وهو ابن اللجام في مجموعه: هذا الباب يرد به على الرافضة وقوم من الخوارج زعموا بأن أحكام النبي عليه السلام وسنته منقولة عنه نقل تواتر، وأنه لا سبيل إلى العمل بما ينقل نقل تواتر، وقولهم في غاية الجهل بالسنن وطرقها، فقد صحت الآثار أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بعضهم السنن والأحكام عن بعض، ورجع بعضهم إلى ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وانعقد الإجماع من الجمهور على العمل بخبر الواحد، فبطل قول من خرج عن ذلك.
وفصل آخر منه ما نصه: الاعتصام بالجماعة كالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، لقيام الدليل على توثيق الله تعالى ورسوله عليه السلام صحة الإجماع وتحذيرهما من مفارقته، لقوله تعالى:" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى" وقوله تعالى:" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر". وهاتان الآيتان قاطعتان على أن الأمة لا تجتمع على ضلال، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فهمًا له من كتاب ربه عز وجل، فقال:" لاتجتمع على ضلال" ولا يجوز أن يكون أراد جميعها من عصره إلى قيام الساعة، فإن ذلك لا يفيد شيئا، إذ الحكم لا يعرف إلا بعد انقراض جميعها، فعلم أنه أراد أهل الحل والعقد من كل عصر.
نقول: ومن الأمور التي هي من الشهرة بمثابة المعلوم بالضرورة استمرار عمل الأئمة في جميع الأقطار على الدعاء أدبار الصلوات في مساجد الجماعات، واستصحاب الحال حجة عند الجميع، ومن هذا الباب ما قاله بعض العلماء عند التكلم في تعيين ليلة القدر أن اتفاق المسلمين في الأمصار على الختم في الجوامع ليلة سبع وعشرين دليل واضح أنها هي، وكذلك الدعاء دبر الصلاة جاء الترغيب فيه على الجملة، ولم يرد المنع منه في الشريعة، واجتماع الناس عليه بالمساجد في المشارق والمغارب منذ الأزمنة المتقادمة من غير نكير إلى هذه المدة من الأدلة على جوازه واستحسان الأخذ به وتأكيده عند علماء الملة، والبيان بالفعل أجلى من القول، ولا يعتبر في المجمعين جملة الأمة إلى يوم القيامة كما تقدم، والمعتبر في كل فن أهل الاجتهاد فيه وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره، فيعتبر في الكلام المتكلمون وفي الفقه الفقهاء، قاله الإمام، وعنه: إذا استدل أهل العصر الأول بدليل وذكروا تأويلا، واستدل أهل العصر الثاني بدليل آخر وذكروا تأويلا آخر، فلا يجوز إبطال التأويل القديم، وفي التنقيح: حقيقة الإجماع اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة إما في القول أو الفعل والاعتقاد، وحسبنا ما ذكرناه من الأدلة، وفيه الغُنية الكافية للناظرين بعين البصيرة في المسألة.
ولنختم الكلام بالدعاء الذي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورد أنه قلما كان يقوم من مجلس حتى يدعو به لأصحابه، وهو ما نصه:" اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تدخلنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصرنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا" ونحن نقول مثل ذلك في أعقاب الصلوات وأبعاض الوقت.
- المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، أحمد بن يحيى الونشريسي ص 286-300 دار الغرب الإسلامي ،بيروت 1401/1981.