ليكم المقالة الثامنة للشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله والتي نشرت في مجلة البصائر: س1 عدد 28 الجزائر يوم الجمعة 27 ربيع الثاني 1355هـ الموافق ليوم 17 جويليت 1936م، الصفحة 4 والعمود 2 من الصفحة 5.
-4-
قال فضيلته:" وقد عارضه، أي: الترك النبوي" قصد آخر حسن وهو التبرك بقراءة القرآن ووصول ثواب ذلك للميت، فهم يرون في السكوت في الجنائز فضيلة بركة التأسي وفي القراءة فضيلة وهي وصول الثواب للميت".
هذه هي حجة كل مبتدع ومحدث في الدين ما ليس منه ومتعبد بغير ما شرع الله لعباده بواسطة رسوله- عليه الصلاة والسلام-. يفعل ما تركه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- بدعوى أن في فعله خيرا وفضيلة وزيادة مفيدة، ويعارض التشريع الإلهي بالترك النبوي مع قيام المقتضى برأيه وهواه، واستدراكه ودعواه، ومن مقتضى منعه – قطعا- أن ذلك الخير وتلك الفضيلة والزيادة المفيدة قد فاتت النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في السنين الطويلة التي
ص109 عاشها تاركا لها فلم يفعلها ولم يبلغها وهو المأمور بالتبليغ المعصوم من الكتمان حتى تفطن لها هذا المبتدع فجاء بها وفاز بتحصيلها، وكانت من الفضائل التي رجح ميزانه بها خلا منها ميزان محمد – عليه وآله الصلاة والسلام-" كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا" .
ولو جرى الأمر على هذا الأصل الباطل والقول الضال لأذن للعيدين والتراويح والكسوف والاستسقاء، وقيل إن عدمها في العهد النبوي ترك وهو لا يدل على استحباب عدم الأذان ولا على كراهة ضده وقد عارضه قصد آخر حسن وهو ما في الأذان من حصول الثواب للمؤذن والحاكي؟ ففي عدم الأذان فضيلة بركة التأسي وفي الأذان فضيلة حصول الثواب للمؤذن والحاكي، وهكذا يمكن أن تزاد عبادات كثيرة في غير مواضعها تركها النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- مع قيام المقتضي لها ويعارض تركه عليه السلام لها بما فيها من الفضائل الذي غفل عنه هو عليه السلام واهتدى إليه المبتدعون، وكفى بقول يؤدي إلى هذا ضلالا وفسادا.
نعم في قراءة القرآن العظيم لقارئه وسامعه كل البركة ووصول الثواب المهدى، قال به جمع الأئمة -عليهم الرحمة-، غير أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- وهو الرحيم بأمته الحريص على دلالتهم على الخير وما فيه الأجر والثواب لم يقرأ القرآن العظيم في هذا الموطن فدلنا على أن الترك هو الخير، وأن هذا الموطن ليس محلا للقراءة بل هو محل لعبادة أخرى هي عبادة التفكر والاعتبار، فالقراءة فيه بدعوى تلك المعارضة مخالفة ومشاقة له، وما هو أكبر من ذلك من دعوى الاهتداء إلى ما لم يهتد إليه -عليه السلام-.
ثم قال فضيلته:" واعتضدوا بقراءة سورة (يس)".
ص110 لو كان لمن يقول بقراءة القرآن العظيم عند التشييع دليل من أثر أو صحيح نظر لأمكن أن يقال:
" واعتضدوا بحديث (يس)"، لكن قد علمنا مما تقدم أنه لا دليل لهم إلا مشاقة الترك النبوي بتخيل الأفضلية ودعوى الاهتداء إلى ما لم يهتد إليه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- مما تقدم لنا إبطاله فلا يمكن حينئذ أن يقال:" اعتضدوا" ويبقى النظر في حديث قراءة (يس) نفسه فلنتكلم على سنده ومتنه ليتبين أنه خارج عن موضوعنا.
حديث قراءة يس
عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم-:" اقرؤوا (يس) على مموتاكم" قال الحافظ في التلخيص(153) بنقل الأستاذ محمد حامد الفقي: رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان – وليس بالنهدي- عن أبيه عن معقل بن يسار ولم يقل النسائي وابن ماجة عن أبيه، وأعله ابن القطار بالاضطراب وبالوقف وبالجهالة لحال أبي عثمان وأبيه.
ونقل الإمام أبو بكر بن العربي المالكي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث اهـ، وقد صححه الحاكم وابن حبان وهما معروفان بالتساهل في التصحيح، وسكت عنه أبو داود وسكوته يقتضي عدم تضعيفه ولكنه لا يقتضي بلوغه درجة الصحيح وإذا ضم إليه ما ورد في معناه – ولم يبلغ منها شيء إلى درجة الحجة- ارتقى إلى رتبة الحسن لغيره، هذه كلمة موجزة في سنده بينت لنا رتبته، وأما متنه فإن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام:" على موتاكم" من حضرتهم الموت، قال ابن حبان في صحيحه- بنقل ابن حجر وغيره: أراد من حضرته المنية لا
ص111 أن الميت يقرأ عليه- قال وكذلك قوله:- صلى الله عليه وآله وسلم-:" لقنوا موتاكم لا إله إلا الله"اهـ، ومما يدل على أن المراد من حضرته المنية ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، قال حدثنا أبو المغيرة ثنا صفوان قال كانت المشيخة يقولون إذا قرئت – يعني (يس)- لميت خفف عنه بها، وفي مسند الفردوس – بنقل ابن حجر – عن أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- " ما من ميت يموت فيقرأ عنده (يس) إلا هون الله عليه" قال الصنعاني شارح (بلوغ المرام): وهذان يؤيدان ما قاله ابن حبان من أن المراد به المحتضر اهـ. وحديث أحمد المتقدم رواه جمع من شراح الحديث مختصرا كما رأيت وأصله في المسند هكذا:" حدثنا أبو المغيرة ثنا صفوان بن عمرو عن المشيخة أنهم حضروا غضيف بن الحرث حين اشتد سوقه فقال: هل أحد منكم يقرأ (يس)؟ قال فقرأها صالح بن شريح السكوني فلما بلغ أربعين آية منها قبض، قال: فكان المشيخة يقولون:" إذا قرئت عند الميت خفف عنه بها". قال الحافظ ابن حجر في (الإصابة): وهو حديث حسن الإسناد، وغضيف المتوفى صحابي وصالح الذي قرأها، له إدراك، فالمشيخة الذين حضروا بين صحابي وتابعي، والحديث وإن كان موقوفا فمثله لا يقال بالرأي، قال الحافظ: فله حكم المرفوع، وما في هذا الحديث صريح غاية الصراحة، بأن قراءة (يس) إنما هي على المحتضر ففيه ( لما اشتد سوقه) والسوق قال أئمة اللغة: هو النزع، وكان المحتضر نفسه هو الذي قال:" هل فيكم أحد يقرأ يس" وقد فهم الأئمة- رضي الله عنهم- أنه المحتضر، فأخرجه ابن ماجة تحت قوله:" باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر" أخرجه البغوي في( المصابيح) تحت قوله:" باب ما يقال عند من حضره الموت ". ومثله التبريزي في (المشكاة)، وكذلك الإمام ابن أبي زيد فإنه
ص112 ذكر رخصة بعض العلماء – وهو ابن حبيب- في قراءة يس- في (باب ما يفعل بالمحتضر من رسالته) فقال هكذا:" وأرخص بعض العلماء في القراءة عند رأسه بسورة يس ولم يكن ذلك عند مالك أمرا معمولا به".
فبان بهذا كله أن حديث قراءة (يس) – على ما فيه كما عبر فضيلته في أصل الفتوى- خارج عن موضوعنا، لأن موضوعنا في القراءة على الميت بعد موته وهو الذي يفعله الناس ويسمونه (فدوة) وعند تشييعه كما يفعل (مروقية) تونس وغيرهم، وهو الذي قصر فضيلته الكلام عليه في التذييل كما تقدم، وبعد دفنه عند قبره، وليس لنا أن نقيس هذه المواطن على قراءة يس عند المحتضر لأن القياس لا يدخل في العبادات ولأن المعنى الذي قصد من قراءتها- وهو التخفيف عليه حال النزع- معدوم في هذه المواطن.
ولهذا فنحن ما زلنا نطالب فضيلته بالإتيان بسنة صحيحة قولية أو فعلية تثبت مشروعية القراءة في موطن من هذه المواطن، وأنى له ذلك؟ . عبد الحميد بن باديس